نزل القرآن الكريم في ليله القدر { إنا
أنزلناه في ليلة القدر } القدر ... وهي ليلة عظيمة خصها الله سبحانه بنزول كلماته
وآياته على رسولنا عليه الصلاة والسلام ... واستغرق نزول القرآن الكريم على سيدنا
محمد ما يقارب 22 سنة ولم ينزل على رسوله دفعة واحدة وإنما نزل على دفعات بقوله
سبحانه { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه
ترتيلا } الفرقان ...بمعنى أن الكافرين كانوا يريدون نزول القرآن جملة واحدة حتى يعتبروه
معجزة وكلام الله تعالى لأنهم حسب اعتقادهم وحسب ما وصل إليهم من أخبار من سبقهم إن
الكتب السماوية نزلت دفعة واحدة على الرسل ... لذلك قالوا لِم لَم ينزل دفعة واحدة
كغيره من الرسالات السابقة فأجابهم الله تعالى لتثبيت فؤاد أي قلب الرسول عليه السلام
في حفظ القرآن ... من حكم نزول القرآن الكريم على دفعات أن كانت بعض الآيات تنزل لتوضح
أمر ما أو تكشف عن واقعة ما أو توضح حكم ما وهذه الآيات تسمى سبب النزول أي
"المسببة" أي كانت تنزل لسبب كما حدث في حادثة الإفك وتوضيح حكم الأسرى في
الغزوات وعن زوجات الرسول وخلافات بيت الرسول وغيرها الكثير من الآيات الكريمة ...
وكانت الآيات القرآنية تنزل مع الوحي سيدنا جبريل عليه السلام حيث كان جبريل يخاطب
الرسول ويعلّمه آيات الله تعالى ويحفظها له ثم يقوم الرسول بتعليم الآيات القرآن
للصحابة وتحفيظهم ثم بدورهم يعلمونها لغيرهم ويكتبونها ... وموضوعنا هذا يتركز حول
نقطة مهمة : كيف كان شكل أو طريقة نزول الآيات ؟ بمعنى كيف سيدنا جبريل كان ينطق
الآيات لرسولنا ويخبره بها ؟ هل نطقا كحديث عادي كما يحدث بين أي أثنين في أي
محادثة ؟ أم كان الحديث بصيغة الإلقاء أي التعبير بالصوت ونطقا فصيحا بالكلمات ؟ أم
كان ترتيلا بجمال الصوت والتدقيق بالكلمات وضبط مخارج أحرفها ؟
في البداية وقبل أن نحلل أسئلتنا السابقة وجب أن نعرف أن أمة العرب
قاطبة منذ جاهليتها وحتى إسلامها اعتمدت كليا على أسلوب ولغة التواتر ... والتواتر
أي التتابع وهو مصطلح يعني النقل والناقل والمنقول من الفرد إلى الفرد أو من الفرد
إلى الجماعة أو من الجماعة إلى الجماعة ... واستخدم العرب هذه الخاصية أي خاصية
"التواتر والتتابع" في نقل الأخبار والأحداث والشعر وما تراه أعينهم في
رحلاتهم وحروبهم منهم من كان صادقا في النقل ومنهم من كان كاذبا في سرده وهي
بالمناسبة كانت وسيلة كل الأمم الماضية وليس العرب حصرا ... وبالتالي عملية
التواتر ليس بالضرورة دائما أن تكون أمرا مسلما مصدقا به كلا وأبدا ربما كانت
الحقيقة وربما كان الأمر تدليسا وربما الأمر يجمع ما بين هذا وذاك ... لذلك عندما
يحدث هرج ومرج في عملية النقل خصوصا في السنة النبوية في الخلافات الشرعية في
خلافات العامة فيكون المرجع الحاسم والقاطع هو القرآن الكريم ... لذلك الآن يجب أن
نستفهم ونفهم كيف فعليا كان سيدنا جبريل عليه السلام قرأ ونقل الآيات القرآنية
لرسولنا عليه الصلاة والسلام ؟
ما معنى الترتيل ؟ ... الترتيل في قاموس اللغة العربية أي "تلا يتلو أتل وتلاوة" أي أخبر واقرأ وأيضا يصح مصطلح
"رتل" وهي خاصية للفرد الواحد أي إقرأ بتأني وبتتابع أما الجمع فهي
تراتيل إن كان أكثر من أثنين وترتيل إن كان لفرد واحد وبشرط أن يكون الصوت مرتفع
وليس همسا أو منخفضا سواء للفرد أو للجماعة ... والترتيل من أهم شروطه أن يكون
الصوت منغما وجميلا بضبط دقيق للكلمات الموصوفة وضبط تشكيلها اللغوي ومداخل ومخارج
أحرفها في الفم الناطق بها ... هنا يجب التأكيد أن الحديث العادي بين أي أثنين من
الطبيعي أن تكون فيه أخطاء وأغلاط وسوء فهم في أحيان كثيرة لأنه مجرد حديث ... لكن
الترتيل كلا وأبدا لا مجال للخطأ فيه ولا حتى 1% لأن الضبط اللغوي واستنفار العقل
يكون في قمته أثناء الترتيل ... والترتيل لا يكون ترتيلا إلا وفق أحد المقامات
الموسيقية وهي : الكرد والعجم والنهاوند والصبا والراست والسيكا والحجاز والبيات ... مع
الإنتباه والتنبيه المشدد يجب الفهم والتذكير بل والتحذير بعدم خلط الأمر فالغناء
شيء وكلمات رب العالمين شيئا مختلفا كليا ... فالغناء تاريخا عرفه الإنسان قبل كل
الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية وبآلاف السنين وعرف عن الإنسان
حبه واستئناسه بالألحان الموسيقية وانجذابه لجمال الأصوات ...وعلميا ثبت أن جمال
لحن الصوت يتم تقبله أكثر وأسرع من الصوت عديم الجمال وقد قسم العلماء جمال
الأصوات بالموجات الدماغية وهي موجات : دلتا - ثيتا - ألفا - بيتا - غاما ...
بدليل واقعي أخر ستجد اليوم استحــــالة أن تسمع قرآن كريم من أي قارئ إلا وفق أحد
المقامات الموسيقية + يستحيل أن تسمع أي أذان إلا وفق أحد المقامات الموسيقية ...
لذلك اليوم نجد المسجد الذي فيه مؤذن أو إمام ذوو صوت جميل وشجي هو أكثر المساجد
تزاحما عليها أو إقبالا عليه لأنه يشجي القلب ويزداد الإنسان خشوعا وتأنيبا للضمير
ودمعا للعين ؟
هناك آيتين في غاية الأهمية في موضوعنا هذا الأولى { لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا } الفرقان
... والثانية { ورتل القرآن ترتيلا } المزمل ... إذن
هناك كلمتين بنفس المعنى لكن بصيغتين مختلفتين ( ورتلناه + رتل ) ... رتلناه أي هناك
خبر ويقين بأنه نزل مرتلا بهدف الدخول إلى الفؤاد أي القلب مباشرة وهي عملية تحفيز
المشاعر ... ومن أول من رتله ؟ لا يوجد إلا سيدنا جبريل عليه السلام فهو الرسول
والناقل من رب العالمين سبحانه ... والأمر الآخر ورتل بمعنى الأمر في الآيتين أن
الخبر أنه نزل مرتلا ويأمرك بالترتيل : رتلناه - ورتل ؟
هل هناك تشبيه بين القرآن والموسيقى ؟
هذا ما حذرت منه في الفقرة أعلاه ... إياكم ثم إياكم أن تشبهوا كلام
الله بالفن والموسيقى فكلام الله وجب أن يقف الجميع عنده بكل احترام ووقار وأدب
وكياسة الأخلاق ... لأن الهدف من صياغة وترتيل كلام الله بصيغة جمال لحن الصوت أن
تضرب كلمات الحق جل علاه صميم قلب المؤمن وتؤثر به وتستحضر الحق واليقين والتذكير
بالله وأحوال الدنيا وأمر الآخرة وليس القرآن للطرب ولهو النفس معاذ الله وليس
كالطرب والموسيقى التي تنتج الرقص والضحك والإطراء والمديح على المؤلف والعازف ...
لذلك وبعدما سبق أظن وأعتقد أن سيدنا جبريل عليه السلام كان يرتل الآيات لرسولنا
بطريقة جمال الصوت وعذوبة وصدق الكلمات وليس بصيغة الحديث العادي ... بدليل في أيامنا
هذه كل رجال الدين وفي كل وطن لا يصدح نداء الصلاة إلا بجمال الأذان ويعــــيب على
أي مؤذن أو إمام أن يؤم أو يؤذن بالناس أن يكون قبيح الصوت بل هذا المرفوض أصلا ...
وبالمناسبة ونقطة مهمة قبل الختام : لا يوجد القرائة بصوت مرتفع أو الترتيل إلا
بموافقة بمعنى دخلت المسجد وهناك ناس يقرؤون القرآن لا يجوز هنا أن ترتل بصوت عالي
أو مرتفع حتى لا تجرح باقي القراء لأن بيوت الله ومساجده لها آدابها وأحكامها
وشروطها وتوقيرها ... بمعنى أن الترتيل له جلسات خاصة أي هناك ترتيب مسبق في المنزل
في المسجد في أي مكان وليس شرطا ولا بالضرورة أن يكون بين رواد المسجد القراء
والعابدين ؟
قال رسول الله
"ليس منا من لم يتغــــن
بالقرآن"
يتغن : أي يحسّن ويجمّل صوته
دمتم بود ...