2020-08-19

عبودية الفرد واستعباد المجتمع 3


من المفارقات العجيبة والغريبة أن القانون الذي يُنظم حياة الإنسان ويتطور بتطور الزمان والمجتمع هو نفس القانون الذي أصبح يُخضع الناس لرغبات الحاكم والسلطة بتفصيل على المقاس المطلوب ... وإن من أول علامات العبودية هو مصطلح "القانـــون" والقانون هو مجموعة أفراد تناقشوا على أمر ما ثم اتفقوا عليه ثم أصدروا قرارا بشأنه وهذا القرار يسمى "قانون" ... أي الأصل في الأمر هو الإنسان أو مجموعة أفراد وطالما الأمر من صنع الإنسان فالأمر لا يخلوا من الخطأ ولا تستبعد عنه فرضية الشبهة سواء منفعة أو مصلحة أو صناعة مركزية القرار أو تعزيز لمركزية القرار مع عدم استبعاد صحة ومنطقية القانون أي أن الأمر يتأرجح ما بين المسلحة العامة وما بين المصلحة الشخصية ... بدليل أن هناك ملايين القوانين التي ألغيت وملايين القوانين التي عدّلت في كل دول العالم مما يؤكد أن القانون ليس بالضرورة أن يكون أمرا مقدسا ولا يعني أن كل قانون وجب احترامه بل ليس من المفروض أن تثق بأي قانون لأنك لا تعلم متى سيتغير هذا القانون و "المقدس ثابت لا يتغير" وطالما أنه تغير هذا يعني أنه ليس مقدسا ... بدليل أن في الكويت ما قبل الدستور الكويتي كانت سلطة الحاكم مطلقة ولا يستطيع كائنا من يكون أو يوقفه أو يعارضه وبعد العمل بدستور الكويت في 1962 تغير كل شيء بنسبة 100% فأصبحت سلطات الحاكم محدودة وقراراته مقيدة ويمارس عمله وفق صلاحيات محددة نظمها دستور البلاد ... والمواطن بعدما كان عبدا مأمورا مسلوب الإرادة تحول إلى شريك في القرارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية فاختلف الأمر كله وهذا أيضا ما حدث في فرنسا وبريطانيا وأوروبا كلها وأمريكا ولبنان وتونس وغيرها عبر التحول "من مركزية القرار إلى مشاركة القرار ومن حكم الفرد إلى حكم الجماعة" ... وكلها نقلات وتحولات إيجابية وحسنة بالتأكيد وهذا ما لم يكن إلا بسبب مطالبات حثيثة وأشكال مختلفة ومتنوعة من التمرد والرفض الشعبي الذي دائما لم يكن برفض شعبي 100% بل رفض يحدد كأقل تقدير من بين 10% إلى 20% لكنه أتى أوكله بعدما أصبح واقعا وشعر به الجميع ... ولذلك من يحكم في ظل الديمقراطيات يستحيل ثم يستحيل أن يعود إلى ماضي حكم الفرد ومركزية القرار لأن العودة إلى ذلك يعني سقوط ونهاية نظام الحكم بنسبة 100% بسبب الرفض الشعبي الذي حتى لا يريد أن يسمع مثل هذا الحديث وليس أن يفهم أو يقتنع ... في مقابل ذلك لا يزال هناك حكم الفرد والقرار المركزي في الكثير من الدول المتخلفة وهناك الأخطر منهم جميعا وهو من حول الديمقراطية والحريات وأعادها شيئا فشيئا إلى مركزية القرار وحكم الفرد الواحد عبر إقصاء الأحزاب والتارات السياسية من خلال القبضة الأمنية المتوحشة ... فتم إفراغ الدستور من محتواه وقيّـد الجميع ووظف مجلس النواب لصالحه بعدما أوصل إليه من هو عبدا مطيعا ومن يتمرد تلفيق التهم جاهزة والقضاء الفاسد بانتظاره والسجن بمدد طويلة مثواه الدنيوي ... في كتاب "العبودية الطوعية" صفحة 158 يقول المفكر الفرنسي "إتين دي لابويسيه" المتوفي في 1563م : هناك ثلاثة أنواع من الطغاة فالبعض الأول يسود عبر انتخاب من الشعب والبعض الأخر بقوة السلاح أما البعض الأخير فبالتوالي الوراثي ... أما الذين اغتصبوا السلطة بقوة السلاح فيتصرفون بها كأنهم في بلاد قاموا بغزوها أما الذين ولدوا ملوكا فليسوا على العموم أفضل مطلقا فالذين ولدوا وترعرعوا في حضن الطغيان يرضِعون الطغيان طبيعيا مع الحليب وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى عبيد بالوراثة ويتصرفون بالمملكة وفقا لطبعهم الغالب بخلاء كانوا أم مبذرين مثلما يتصرفون بإرثهم ... أما الذي تأتيه السلطة عن طريق الشعب فإنه ما أن يرى نفسه مرفوعا أعلى من الجميع حتى يساوره الغرور بفعل ذلك الذي يطلقون عليه إسم العظمة فيصمم على أن لا يتزحزح من مقامه ويعتبر على نحو شبه دائم أن القوة التي منحه إياها الشعب ينبغي أن ينقلها إلى أبنائه ... كل الطغاة الأخرين لا يجدون وسيلة لضمان طغيانهم الجديد ما هو أفضل من نشر العبودية وتعميمها وبذل كل قوة لاستبعاد لأفكار الحرية من رعاياهم مهما كان العهد بها قريب ذلك أنهم ارتقوا إلى العرش بأساليب شتى فإن طريقتهم في الحكم تكاد تكون تقريبا هي هي على الدوام ... فاللذين اختارهم الشعب يعاملونه معاملة ثور يقومون بتطويعه ويرى الغزاة فيه طريدة من طرائدهم أما الوارثون فهو في نظرهم قطيع من البعيد يملكونه بالفطرة "انتهى الإقتباس" ؟
 
في البحث والتحليل عن أنظمة الحكم الفاسدة والطاغية والمجرمة سهل على الباحثين معرفة كيف حكم هؤلاء الأوغاد دولهم وأقاليمهم وكيف طوعّوا الآلاف والملايين وكيف استبدوا بالأمم ... وعِلم النظريات وعِلم الفلسفة مليئ جدا بالتحليل والتفسير في فهم كيف يحكم الطغاة والمستبدين وعِلم الفلسفة هو علم تفجر في القرن السادس قبل الميلاد وحدث صراع ما بين الفلسفة اليونانية والرومانية ثم بعد ذلك انبثق وتفرع منها عِلم السياسة ... وفي حقيقة الأمر رغم ما قرأت وبالرغم ما عَصرتُ تفكيري كثيرا لم أجد ما ألوم به الطغاة والمجرمين لأنه فعليا لا لوم عليهم فلو كنت مريضا ومرضا شديدا ولم تساعد الأطباء وتساعد نفسك فستموت مثلما إن لم تتعلم السباحة ستغرق وتموت ... إذن هناك مجرما طاغيا هذا أمر مفروغ منه ولا حاجة للنقاش والجدال فيه مثل من يلوم الكافر على كفره لكنه لم يفهم أنه كفر وما بعد الكفر ذنب فإن كانت كل كتب التحليل السياسي وكل علم التفسير النفسي وكل كتب سيرة التاريخ السياسي تتحدث عن بضعة طغاة ومجرمين فعرفنا وفهمنا فماذا نفعل بشعب وأمة كلها أمة جبانة قبلت الظلم والإستبداد والقهر والذل ؟ ... وبكل صراحة وأمانة أجد أن التاريخ بكتابة ومؤرخيه قد انتقموا من الطغاة والمجرمين والمستبدين بنشر خزي سيرتهم وكوارث أفعالهم القذرة لكنهم أغفلوا عمدا تواطؤ الرعية ولم يلومهم أحدا على سكوتهم وخنوعهم وعشقهم للذل والتلذذ بسنوات من الإستبداد والطغاة بضعة أفراد والشعب أمة فإن صمتت الأكثرية عن الأقلية فلا أحد يلوم الأقلية بل يقع كل اللوم على الأكثرية التي كان شاهد عيان ومنهم خرجت الأقلية المستبدة ... قد تساعد ضعيفا في الطريق وقد تنقذ امرأة من التعدي عليها وقد تنقذ طفلا من الغرق لكنك لن تستطيع أن تنقذ أمة بأسرها هي أصلا لا تريد أن تنقذ نفسها ولم ترى قوة إلا في شكواها وسرا أيضا بمعنى أن حتى شكوى الحديث يرتعبون منه فمثل هذه الأمم وهذه المجتمعات لا تستحق أي احترام بل لا تستحق أن تضحي بنفسك من أجل أمة جبانة ... وعرف في التاريخ القديم وحتى الحديث أن الأمة أو الشعب الجبان هو أسهل مكان للإحتلال وغزوه ونهب ثرواته لأن أهل هذه المدينة أو هذا البلد قوم جبناء اقتل ألف يرتعب 100 ألف واقتل مليون يرتعب منك مليار ... وما "تنظيم داعش" المجرم ببعيد عنكم فقد قدرته "المخابرات الأمريكية" بعدد لا يزيد عن 31 ألف إرهابي وقد نجحوا بالفعل برعب ما لا يقل عن 30 مليون نسمة ما بين العراق وسوريا ... فالشعوب الجبانة هي من اختارت العبودية لأنها ضعيفة أصلا ومثل هذه النوعية من الشخصية لا تستحق أن تنعم بالحرية لأنها إن عاشت الحرية سرعان ما تدب الفوضى في أوساطها وسرعان ما تنقسم البلاد وتتشكل الفرق والشِيَع والأحزاب وهم أسهل قوم يمكن شرائهم بالمال بسبب ما فعله فيهم الفقر من أفعال ناهيك عن تغلغل الفساد في الأنفس بسبب سنوات طويلة عاشوها تحت حكم فاسد ... وكل شعب يعيش في فقر وتحت ظل الإستبداد وأهله جبناء فانظر إلى تاريخه القديم تلقائيا ستكتشف أنه قد تعرض للغزو والإحتلال مرات عديدة وليس مرة واحدة فحسب لأنهم قوم أقوال لا أفعال ... ولا تحتاج إلى التفكير العميق لأن الطغاة تلقائيا يعرفون ذلك بل هم على يقين بأن الشعب الذي يقبل بالذل والمهانة لن يقبل بالحرية بل يُرضع جيل الخنوع والخضوع للجيل الذي يليه تحت حجة السلامة واتقاء شر الطغاة ... والتاريخ يخبركم أن الملك الفارسي "قورش" عندما حكم "الليديين" قبل أكثر من 500 سنة قبل الميلاد لم ينزل على أهل المدينة بالسيف والدمار لجمال مدينتهم بل فتح لهم حانات الخمر وساحات اللعب والمعازف وملأ المدينة عاهرات فأمر الرعية بممارسة المتعة بكافة أشكالها مجانا كهبة منه فغرق الرعية بالملذات فنسوا بلاء ما حل بهم فمجدوا المحتل الجديد وأدانوا له بالولاء والطاعة !!! ... وانظروا في أيامكم هذه كل من أراد التخلص من حاكمه أو نظام حكمه لن تجد الشعب أو الرعية إلا شرذمة خونة لأنهم سمحوا للخارج والغريب أن يتدخل في وطنهم وعلى أرضهم بحجة مدهم بالسلاح والمال فزادت صفة الجبن على صفة الخيانة لأمم جبانة لا مانع لديها من تدمير أوطانها والتدخل الخارجي في شؤونها ومن ثم الإستيلاء على مقدراتها كلها من صفات الجبان العبد الذليل الذي لا يستحق أن تناصره أو حتى تقف معه ؟
 
في الدين الإسلامي قام علماء السلطان وتجار الدين بخضوع وخنوع الأمة بقوة السيف والبطش منذ سنة 41 للهجرة 662 ميلادية أي قبل 1358 سنة ميلادية ... لم يطوّع الأمة الإسلامية طغاة الحكام بل أكثر من طوعها وأخضعها للذل هم تجار الدين الذين زينوا للحاكم كل مفاسد الدنيا على أنها من حقه وأرهبوا الرعية بأن الخروج على ولي الأمر هو خروج على الله بل ويموت كافرا ... تماما مثلما فعل أسياد الكنيسة في أوروبا وتقاسموا البلاد مع الحكام في أوروبا بل مشايخ ليبيا دانت بالولاء للمحتل الإيطالي وأفتت بأن الطاغية "موسيليني" بمثابة ولي الأمر ... وخضع الأزهر في مصر إلى الاحتلال البريطاني وتعامل معه ورضخ لقراراته وخضع علماء بغداد خضوعا مطلقا لـ "هولاكو" وخضع المفتي العام في فلسطين "أمين الحسيني" في فلسطين لـ "هتلر" بل وتعاون معه وارتعب كل علماء سوريا من قول كلمة الحق منذ حكم "الأسد الأب" في 1971 وحتى يومنا هذا في 2020 ... وخرس كل مشايخ وعلماء السعودية إزاء ما يحدث في وطنهم ولا وجود للعلماء من أهل القيمة العلمية الشرعية أو المرجعية الشعبية والسياسية والدينية في كل وطن عربي في أيامكم هذه لأنهم جميعا مجتهدين وطلاب علم لا أكثر ولا أقل ... كلها حقائق تاريخية ذات إرث تاريخ قديم وأقدم وما "الحجاج ابن يوسف الثقفي" في العصر الأموي إلا امتدادا لليوم ... الكل رضخ للحكام والكل لم يعد يجرؤ يقول كلمة حق وبالتأكيد لا توجد دولة ملائكية حتى لا يكون فيها خللا أو فسادا لكن تلك أمثلة كيف يتم توظيف رجال الدين لخدمة الحكم السياسي ... لكن من الملفت للنظر أن نظام الحكم الذي لا يوجد له ذراع شرعي ديني يسانده دائما تكون نهايته قاسة مثلما كانت نهاية الرئيس الليبي "معمر القذافي" فقد استبد بالحكم منفردا ومات منفردا دون أن يناصره أحدا من الذراع الديني لأنه كان يعتقد بأن هؤلاء أوغاد لا عهد ولا أمان لهم ... ولذلك في أنظمة الحكم العربية تجد كل حاكم وله فريقه الخاص وما أن يموت الحاكم حتى ينتهي ويختفي كل فردا من فريقه إما فورا أو على تدرج حتى لا يحدث تصدعا في ميزان سياسة الدولة ... بعكس الإدارة السياسية لأنظمة الحكم في أوروبا فإن من يحكم يجد فريقا موجودا كان يعمل مع من سبقه وإن أراد الرئيس أو رئيس الحكومة أن يأتي بفريقه فلا مانع ببضعة أفراد دون تمكنه بحق تغيير كامل الفريق وتلك من أسرار أو مزايا "الدولة العميقة" التي يجب أن تكون دائما على اطلاع بكل تصرفات وممارسات الرئيس حتى تعرف متى تتدخل في قراراته وتعيد ضبط أدائه ... لكن هل كل ما سبق حدث ويحدث وسيحدث صدفة أم هناك أمرا أساسيا رئيسا هو سبب كل ذاك ؟ هذا ما سوف نعرفه في الجزء الرابع والأخير من هذا الموضوع ؟



دمتم بود ...


وسعوا صدوركم