2020-08-18

عبودية الفرد واستعباد المجتمع 2


ارتباط رجال الدين بالسلطة هو ليس أمرا جديدا ولا حديثا بل هو أمر يمتد منذ ألاف السنين وليس مئات عبر كل الأديان السماوية ارتباطا وثيقا لصيقا يكاد يكون من المستحيل أن تجد نظاما سياسيا إلا والدين السياسي يمشي خلفه كظله أو تأسس على يده ... يقول الكاتب والمفكر والقاضي الفرنسي "إتين دي لابويسيه" : هناك عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية وهما  "الدين والخرافات" ... وقد ارتبط رجال الدين بالسلطة منذ عهد الفراعنة الذين صنعوا من بينهم إنسان ومنحوه قدسية الإله لتعظمه الأمة وإذا عظمته الأمة كان لرجال الدين الفضل عليه والسطوة عليهم ... وإذا كان الفضل لهم خضع لهم الحاكم فيتحكمون بالحاكم والرعية في نفس الوقت فتصبح خيرات الأرض كلها تحت طوعهم وإرادة الحاكم تحت أمرهم وهذا ما كان في زمن الفراعنة وصولا حتى القرون الوسطى في أوروبا ... التي انفجرت كتب التاريخ الأوروبية قديما موروثا وتوثيقا عن جرائم الكنائس في ذاك الزمان وكم جمعوا ثروات وأموالا وكيف نالوا حصانة سياسية ومجتمعية ترقى إلى حصانة الحكام ... بل كان لا يجرؤ الحاكم على خوض أي حرب إلا بعد مباركة الكنيسة التي كانت تتحكم حتى في قرارات الحروب ولذلك كان دائما الصراع السياسي بين الحكام ورجال الدين عنيفا اتفقت كل نهاياتهم على القتل والتخلص من الأخر ... فرجال الدين إن لم يتوافق معهم حاكم ولم يخضع لإرادتهم وسوسوا لابنه أو أخيه حتى يقتل الحاكم الأب أو الأخ فيباركون له فعله وإن كان مجرما فصكوك الغفران جاهزة لتوهب لمن يشاؤون باسم الله والسماء ... وهم بذلك أخذوا وكالة الشعب والرعية من الحاكم أي أنت احكم واستمتع ودع لنا الرعية والغوغائية نحن نكفلك إياهم وبالفعل كانت الكنيسة قوم جبارين على الرعية وكل أمر يُرمى على الرعية بمثابة أمر الله ... فإن خالفتنا كأنك خالفت الله ومن يخالف الله مصيرة القتل دون رحمة أو شفقة وهكذا فهمت واستوعب حكام الأمس واليوم قيمة رجال الدين وأهميتهم في بسط سلطتهم ... لكن تفتق ذهن رجال المال من التجار والأثرياء فوجدوا أنهم يجب أن يكون لديهم ذراعا وأساسا في هذه العملية الحصرية بين الطرفين "الحاكم ورجال الدين" لأن الأمر ليس سماويا لا من قريب ولا من بعيد بل هو عامل اقتصادي سياسي صرف ... فبدأ الأمر في البداية بتقديم العروض والمفاوضات فرفض رجال الدين كل تلك العروض ولما اشتد الخلاف بينهما شعر رجال الدين بخطر رجال المال فبدأ الصراع بينهما بعلم الحكام الذين كانوا مستمتعين بهذا الصراع عل وعسى أن يتخلصوا من سطوة رجال الدين الذين يملكون إرادة الشعب ... فوقع الخلاف وانحاز الحكام لرجال المال لأن عرض الثراء من التجار كان الأكثر إغراء لرجال الحكم خصوصا وأن الحروب تحتاج مالا والمال يوفر شراء المقاتلين وتجهيز الجيوش والمجتمع يحتاج إلى حركة اقتصادية نشطة ... فبدأت عمليات قتل رجال الدين على شكل جرائم غامضة وفي الجانب الأخر شكل رجال الدين قوات مسلحة أطلق عليها "رجال الرب" أو "قوات الله" ولا يحتاج رجال الدين آنذاك أي تمويل لأنهم أصلا سلاطين المال والثراء منذ القدم ... فتحولت الجرائم الغامضة إلى تأجيج الشارع ضد الحاكم والتجار ضد رجال الدين واستمر هذا الصراع 40 سنة حتى اتفق الثلاثة "الحاكم ورجال الدين والتجار" على أن كل منهم وله حصة مما تنتجه الأرض من خيرات وأملاك من الأراضي وكل من يعمل في الأرض هو ملك لهم كعبيد ... وعليه خرج مصطلح "النبـــلاء" وهم فئة رجال المال والثراء والتجار وله لقب رسمي عرف بالـ "كونت" فقسم المجتمع إلى 5 طبقات أساسية وهي
1- الحاكم وأسرته الحاكمة
2- رجال الدين والكنيسة
3- النبلاء من الأثرياء
4- عامة الشعب
5- العبيد
والفرق بين الأزمان القديمة وزمن التقسيم التي وصلت إليه أوروبا قبل 400 سنة لم يكن إلا إعادة تنظيم تقسيم ثروة البلاد ومن يسيطر على إدارة عبودية الفرد واستعباد المجتمع ... فكانت الثلاث طبقات العليا أي بضعة أفراد هي التي كانت تتحكم بمئات الآلاف وبالملايين من الشعوب وتديرها كيفما شاءت وكيفما ووقتما أرادات ... وليس على العامة إلا السمع والطاعة العمياء والقتل مصير من يخرج على ما اتفق عليه "الحاكم ورجال الدين والنبلاء" فكانت عبودية بإرادة الشعب وخضوع بإرادة الفرد حتى ولو رأى أن حقوقه قد انتهكت وأمواله قد أخذت منه أمام ناظريه ... ولا أكثر من السرقات التي غيروا مصطلحها إلى مصطلح "الضريبة الاقتصادية" التي كان للطبقات الثلاثة سالفة الذكر حصة منها تقتطع مقدما والباقي كانت رواتب القضاة والجلادين والسجانين ورجال الأمن وكل أدوات السلطة المجرمة والجيش والحرس وما غير ذلك ... أي بأموالك وبإرادتك صنعنا قاضيك وسجنك ومحققك وسجانك ومن يعذبك فإما أن تقبل أو اختر أمرين لا ثالث لهما "السجن أو الموت" بل وليس هذا فحسب بل مجبرا أن تذهب للحرب إذا ما استدعت الحاجة لذلك دون أي اعتراض منك على ذلك ... ولا ضمانا للنصر ولا تعويضا إذا قتلت أثناء المعارك ولذلك اشتهر في التاريخ القديم حركات التحرر والتمرد التي لا تعد ولا تحصى لكن كلها أبيدت عن بكرة أبيها وقتل كل من كان فيها أو مات في السجن ؟ 
 
في التاريخ العربي كانت هناك أيضا عدة طبقات إجتماعية ذات تنظيم اتفق عليها المجتمع وهي 
1- الحاكم وأسرته الحاكمة
2- الأثرياء والسادة
3- العامة
4- العبيد
لم يكن هناك رجال دين لهم وزن أو ثقل سياسي أو اجتماعي ذوو اعتبار لأنها كانت حياة الجاهلية التي كانت تسير على التجارة والحرب والسلم في التاريخ العربي القديم لم يكن موجودا ... بل التاريخ الجاهلي العربي كان تاريخا مليئا بالحروب التي كانت تمتد لعقود أي ليست حرب واحدة وانتهى الأمر بدليل حرب "الأوس والخزرج" التي امتدت 120 عاما وحرب "البسوس" 40 عاما وحرب "داحس والغبراء" 40 سنة ... وتلك أمة لم يكن لها كبيرا حتى يخضعون له بل في كل قبيلة كبيرها وكان بمثابة الملك أو السلطان وفي نفس القبيلة الأثرياء والسادة ثم العامة ثم العبيد أي القبيلة في جاهلية العرب كانت تمثل مجتمع بحد ذاته ... ثم بعد أن جاء الإسلام تغيرت قواعد وأسس المجتمع فتحول من مجتمع عربي جاهلي إلى أمة عربية مسلمة موحدة لكن ظلت نزعات الجاهلية فيهم منذ أكثر 1.400 سنة وحتى يومنا هذا في 2020 ... لكن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام دبت خلافات الجاهلية وعادت لتطل برأسها من جديد في الخلافة الإسلامية ولم تكن عبودية لكنها كانت نزعات الجاهلية في الأنفس فحدث الخلاف على حكم "أبوبكر الصديق وعمر ابن الخطاب" لكنه كان خلافا سرعان ما تداركه الحكماء درأ للفتنة ... وفي خلافة "عثمان ابن عفان وعلي ابن أبي طالب" وقع المحظور فوصل الخلاف إلى الصراع والصراع إلى سفك الدماء والقتل إلى أن حكم بني أمية من بعدهم فاستأثروا بالحكم فوظفوا الحكم السياسي توظيفا بحكم السيف بدعم رجال الدين ... من حُكم بني أمية بدأت رحلة رجال الدين وتوظيف الدين في خدمة خليفة المسلمين وأمير المؤمنين توظيفا مجرما فانتهى حكم بني أمية عبر الإنقلاب الدموي عظيم الإجرام والكوارث وواسع الفجور من بني العباس ثم ضعف حكم العباسيين فخرجت حركات الإنشقاق والتمرد والتفرد بالأراضي والأقاليم حتى جاء العثمانيين فأعادوا توحيد الأمة الإسلامية وحكموها كما حكم من سبقوهم بالسيف والبطش والرعب وبرجال الدين الكذابين الدجالين المنافقين لله ورسوله ... ومن بعد حكم العثمانيين قسّمت المنطقة العربية على شكلها الحالي كما ترونه فكان رجال الدين عضوا أساسيا في أي نظام حكم ... وخضوع الرعية لرجال الدين يأتي من باب الإيمان بالله سبحانه وتعالى لكن هذا الخضوع هو خضوعا خاطئا بنسبة مليار% والخطأ نتج عنه استبداد رجال الدين واستئثارهم بالتأثير على المجتمع مما سهل لهم قوة التحكم والسيطرة على الجهلة ومراهقي العقل والسلوك ... ومن هذا تم إخضاع الأمة إلى رغبات الحاكم التي في معظمها سلوكيات وقرارات لا تمت لدين الله وشرعه وعدله بأي صلة إلا أن هناك من أفتى بغير ما أمر الله به وهناك من أجاز ما حرمه الله سبحانه فجعلوا الحاكم بمزلة الإله المقدس الذي لا يعصى له أمرا ولا تنزل له كلمة ولا يرد له طلبا وهذا بالتأكيد ما ليس من الإسلام في شيء ؟
 
إن عبودية الفرد ناتجة عن منهج دراسي سياسي أعد مسبقا من قبل ولادتنا وعليه من أول ما يتفتق ذهن الطفل على والديه أن يبدؤا بعملية غسل عقل هذا الطفل ثم يخضع لعملية تأسيس في المدارس الحكومية التي أيضا لها مناهج دراسية تمهد عقل الطفل على أن يكبر فيصبح عبـــدا ولا شيء إلا عبــــدا ... وعندما يكبر هذا العبد يكون متهيئا ومستعدا لتحمل مسؤلياته التي ستلقى على عاتقيه فإن أصبح قاضيا فهو سيعمل وفق خطين لا ثالث لهما الأول : ما تريده السلطة وأنت ستفعل ما نأمرك فيه ... الثاني : مارس سلطتك القضائية حسب ما تراه وما درسته وما تعلمته ... أي قاضيا مبرمجا مخلصا أمينا في جهة وعبدا طائعا صاغرا في جهة أخرى وهذا ليس خيالا بل أمرا واقعيا عليه الكثير من الأدلة في عهد النازية والفاشية والشيوعية وحكم القذافي وصدام ومبارك والأسد وزين العابدين بن علي وفي بريطانيا وفرنسا وأمريكا ولا تزال مسرحيات القضاء مستمرة وحتى قيام الساعة ... ونفس العبد القاضي هناك العبد من رجال الأمن وهم من أهم أدوات السلطة في أي وطن وبلاد في التاريخ القديم والحديث فأكثرهم وحشية وجرائم وخسة وقذارة وطاعة عمياء للسلطة تجدهم هم الأكثر قربا من السلطة والوزير أيضا أكثرهم فسادا وكذبا هو الأكثر بقاء في السلطة ... وهكذا تستمر صناعة العبيد التي تمت صناعته وصقله منذ سنوات طويلة حتى يكون له شأنا قذرا في المستقبل دون النظر إلى دينه أو معتقده لأن في غالب من هم في السلطة هم بلا دين لأنهم أصلا بلا شرف وبلا ضمير ومن لا يكذب لا يبقى طويلا في مكانه "إلا من رحم ربي" ... ولذلك يجب الفهم أن البشرية تقسم كتقاسيم لعبة الشطرنج فهناك من يموت دون أي قيمة وهناك من يعيش بلا أي قيمة وهناك من موته أمرا ضروريا وهناك من يجب أن يعيش لتحقيق هدف معين فمن الجندي والحصان إلى الوزير والملك تلعب الأيام لعبتها مع الجميع فيسقط من يسقط وينجو من ينجو ... أما الرعية وعبوديتهم المطلقة فهذا ما سوف يكون حديثنا في الجزء الثالث من الموضوع ؟




دمتم بود ...


وسعوا صدوركم