دورة الزمن وتوالد الأجيال وظهور أمم وزوال وفناء أمم فمن الطبيعي أن ما هو مقبول في زماننا كان من المحال في غابر الأزمنة وما هو محرم أو مرفوض في زماننا كان مباحا عند من سبقنا ... وكمثال لا الحصر فالجواري وبيع وشراء النساء في زماننا محرم ومرفوض لكنه كان من البديهيات في الماضي ليس في الأراضي الإسلامية فحسب بل في كل الأمم ... تلك التناقضات ما بين الممكن والغير ممكن والحرام والحلال كلها تغيرات صنعها الإنسان ولم تولد معه بمعنى ليست من الفطرة البشرية ... ولذلك كل منطق وعادات وتقاليد اليوم "بشكل عام" لم يكن له وجودا في الماضي قبل 200 سنة من حيث اللبس ومنطوق الحديث والطعام والشراب والإتصالات وترف حياتنا مقارنة مع شقاء حياتهم ... أضف إلى ذلك الإعتبارات التي أصبحت أسسا في زمانكم لم يكن لها أي وجود بالمطلق في زمن من سبقكم ... ولذلك عندما اخترت العنوان المستفز "أبناء الجاريات أسيادكم" لم يكن إلا واقعا وتاريخا وحقائق وليس حديث من صنع الخيال ... لا بل وحتى لغتكم العربية اليوم أصبحت مسرحية لا وجود لها لولا وجود القرآن الكريم لكن كقواعد نحو صرف وأنواع فنون الخط العربي فإن 95% من الأمة العربية اليوم هم جهلة في هذه التفاصيل ؟
يخبرنا التاريخ الإسلامي والسياسي والإجتماعي أن المعروف كل الأمة الإسلامية بما فيها أهل الجزيرة العربية خضعوا لحكم الخلافة الإسلامية ... سواء كان هذا الخضوع كرها أو طوعا ففي كل الأحوال حكم الأمويين والعباسيين والعثمانيين الأمة ... وعندما نتطرق بهذه النقطة تحديدا فيجب عليكم التوقف عندها تماما لتحليلها وفصل عقولكم في 2022 والإنتقال لعقول وفكر 1000م و 1500م و 1800م ... لتتخيلوا كيف أشراف العرب وأكثرهم أصلا وفصلا وثراء ووزنا كانوا يطأطؤون الرأس أمام الخلفاء والولاة وهذا كان من المسلمات والبديهيات بطبيعة الحال ... وكان الجميع خاضعا رغما عن أنفه لسلطة الخلافة ولوالي المدينة بالرغم من معرفتهم التامة بأن خليفتهم هو ابن جارية أي ابن أمة كانت معروضة في الأسواق ... وبعض الجواري تم اختطافهن فعليا من منازل أهاليهم والذهاب بهم مباشرة إلى قصور الخلافة الإسلامية ... وبالمناسبة هذا حديث تاريخكم وليس حديثي وتوثيق التاريخ العباسي والعثماني وليس افتراء ... وبالتالي غفل الباحثين عن تحليل تلك السيكولوجية المثيرة للإهتمام وعدم مقارنتها وإسقاطها مع واقع الحال في حياتنا قبل 100 أو 50 أو حتى في 2022 ... الأمر الذي دعاني للتفكر في نرجسية الخليجيين اليوم "بشكل عام" وظهور حالة من المفاخرة بالأنساب والمفاخرة بالمصاهرة ... والمدهش والغريب في الأمر أن الأمم تتطور وتتقدم وسلوك الأجيال يذهب للأمام لكن في منطقة الخليج حدث ويحدث ولا يزال يحدث العكس بأن عادوا للخلف واستحضروا الجاهلية ... من حيث السلوك والمنطق والممارسة الأمر الذي أدى إلى ظهور نزعات شاذة من منظور الأمم المتقدمة ... رغم أن تلك الممارسات منهية عنها في نصوص القرآن الكريم نصا وصراحة ... وعندما يتحدث تاريخكم فإنه يروي حقائق صادمة مثيرة كيف أبناء الجاريات حكموا أبناء السلالات الأصيلة لا بل وأخضعوهم خضوعا مطلقا ... أما فيما كان يحدث في قصور الحكم فأظن أني قد كتبت ونشرت عن قصور الحكم قديما وحديثا ؟
لو فصلنا وعزلنا أصحاب أو أهل أو أسر قصور الحكم سواء قديما أو حديثا وذهبنا إلى من يعملون فيها فلا أستطيع أن أصف العاملين فيها إلا أنهم "أشقى الناس وأتعسهم حظا" ... لأنهم يرون عجب العجاب ولا يملكون إلا أن يغلقوا أفواههم لأنها هي كذلك بطبيعة الحال في سياسة إدارة وحياة قصور الحكم وأسرهم ... وتحضرني ذاكرتي أني في مرة التقيت برجل يعمل في أحد قصور الحكم في دولة خليجية وكانت وظيفته أن يرسل فاكس ويبعث فاكس فقط ... فيقول نصا : عندما يشاهدوني في القصر فإنهم لا ينظرون إلي على أني إنسان أو بشرا هم ينظرون إلى على أني جهاز فاكس لا أكثر ولا أقل وغير مسموح لي النظر في اتجاهات مختلفة وكأني أحد أبناء القصر وممنوع أن أتحدث في أي شأن أخر مهما كان أنا جهاز فاكس فقط "انتهى النص" ... ولذلك عندما نستعرض تاريخ الصراعات في قصور الحكم العباسي والعثماني يكاد شعر رأسكم يشيب من هول الجرائم والمؤامرات والدسائس والخيانات وتغير وتحول والولاءات ... بل كانت الجواري في قصور الحكم يمكن أن يدمروا ليس موظف أو مسؤل الشرطة بل وحتى الوزير وحتى رئيس الوزراء ... وبالفعل قطعت رؤوس وزراء ورؤساء وزراء بسبب الجواري أو محظيات الخليفة ورميت نساء ورجال في البحر والقتل بالسم كان من أشهر وأكثر عمليات الإغتيال سواء للخدم للجواري لمحظيات الخليفة للمسؤلين ... ولذلك عندما تجد تراجع قوة الخلافة الإسلامية في عهد أي خليفة تلقائيا يجب أن تعرف وقتها أن النساء في قصر هذا الخليفة كانوا أهل قوة وسيطرة ونفوذ ودهاء ... تلك القوة مصدرها أن اختلاف أنساب الجواري هو ما دعى إلى التنافس المتوحش في ميزان القوة فالحبشية تنافس الصربية والإيطالية تنافس الروسية ... والحقائق تخبرنا أن تلك الجواري إحداهن وصلت لحكم الدولة فعليا ورسميا وهي الجارية "شجرة الدُّر" في مصر اشتراها السلطان "الصالح نجم الدين أيوب" ولما حكمت سكّت عملة بإسمها نقش عليها "المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين" ... وخذ مثلا الخليفة الأموي "يزيد بن الوليد بن عبد الملك" أمه الجارية "شاهفرم بنت فيروز" والخليفة "مروان بن محمد" أمة الجارية كردية و "أبو جعفر المنصور" أمه جارية بربرية تسمى "سلاّمة" ... والخليفة العباسي المأمون أمه الجارية "مراجِل" والخليفة المعتصم أمه الجارية "ماردة" والخليفة الواثق أمه الجارية "قراطيس" وفي خلافة الأسرة العباسية خلفاء عظام ولدوا من الجواري أولهم المنصور ثاني خلفاء بني العباس كما ذكرت والخليفة المهدي لديه عدة جواري شهيرات مثل "رحيم" التي رزق منها العباسة و "الخيزران" أم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد أعظم خلفاء الدولة العباسية ... والمعتصم بالله والواثق والمستعين والراضي والمستكفي وغيرهم من خلفاء بني العباس جميعا من أبناء جواري ... ونجد بين خلفاء الأندلس عدداً من نسل الجواري مثل "عبدالرحمن الناصر" أعظم خلفاء الأندلس فقد كانت أمه جارية أسبانية نصرانية تدعى "ماريه" و "هشام المؤيد بالله" فقد كانت أمه جارية "صُبح" الشهيرة بـ "أورود" وهي لبثت زهاء عشرين عاما تسيطر بنفوذها على حكومة قرطبة ... والكثير الكثير مما تشيب له الولدان ؟
أما في الخلافة العثمانية فكان هناك لقب "الوالدة السلطانة أو السلطانة الأم" أي أم السلطان أم خليفة المسلمين وهي التي كانت تدير شؤون "الحرملك" وهو مكان فيه الجواري والغلمان من "المخصيين" ... والسلطانة الأم كان لها نفوذا طاغيا على رجالات الدولة والسياسة ... والسلطانة الأم أيضا هي التي كانت تقدم للخليفة أجمل البنات العذارى في كل ليلة ويوم الخميس تحديدا كان مخصصا لأم أبناء الخليفة ... ولتعرفوا أسباب تلك الصراعات المتوحشة يكفي أن تعرفوا نسب أمهات الخلفاء في العهد العثماني لتعرفوا أن "الأصل في ظهور الرجال وليس في بطون النساء" ... فالسلطانة الأم "نيلوفر خاتون" كانت من بيزنطة أي اليونان والسلطانة الأم "خديجة هما خاتون" كانت من صربيا ... والسلطانة الأم "كلبهار خاتون الثانية" كانت من ألبانيا والسلطانة الأم "خرم سلطان" كانت من روسيا والسلطانة الأم "نوربانو سلطان" كانت من البندقية إيطاليا والسلطانة الأم "خاندان سلطان" من رومانيا ... والسلطانة الأم "ترخان خديجة سلطان" من أوكرانيا والسلطانة الأم "خديجة معزز سلطان" كانت من بولندا ... والسلطانة الأم "أمينة مهرشاه قادين" كانت فرنسية والسلطانة الأم "مهر شاه سلطان" كانت من جورجيا ... وغيرهن الكثيرات وهذا فقط ممن يحملن لقب "السلطانة الأم" فما بالك بالجواري والمحظيات والطبيعي كانوا مسيحيات ويهوديات فأسلمن في الحرملك ... ومن تسلم لا يعني أنها تحررت كلا بل تبقى جارية حتى يتم تحريرها ومن يتم تحريرها لا يجوز نكاحها إلا بعد الزواج وبالتأكيد بلا ولي من أصابها أو أهلها لأنها بالأساس كانت جارية أو مخطوفة ... ومن النادر جدا جدا أن يتم تحرير جارية آنذاك حتى لا تخرج أسرار القصور والسياسة للعامة للخارج ... وبالتالي يجب الفهم أن أبناء الجواري الذين فيما بعد أصبحوا حكاما وخلفاء حكموكم وحكموا سلالاتكم ومجتمعاتكم وقبائلكم وطوائفكم ومذاهبكم ... وهذه الحقيقة التاريخية التي لن يستطيع أحدا إنكارها بالمطلق ؟
دمتم بود ...
وسعوا صدوركم