لا شك أن آلة القانون من الآلات الوترية الشرقية العذبة التي يرجع تاريخها إلي حوالي 5 ألاف عام حيث البداية كانت في سومر في بلاد ما بين النهرين والقانون بشكله الحالي آلة عربية يرجع عهدها إلي العصر العباسي ... وقد انتقلت إلي أوروبا عن طريق الأندلس في حوالي القرن الثاني عشر الميلادي و يتكون القانون من صندوق صوتي يصنع عادة من خشب الجوز علي شكل شبه منحرف قائم الزاوية ويوجد في الصندوق عدة فتحات تسمي الشمسة لتقوية الرنين , وتحتوي القانون في الغالب علي 78 وترا لكل ثلاثة أوتار درجة صوتية واحدة وتشد الأوتار بشكل مواز لسطح الصندوق الصوتي و في الجهة اليسري من آلة القانون توجد مسطرة شد الأوتار أما في الجهة اليمني فيوجد الفرس وهو عبارة عن قضيب من الخشب يحمل الأوتار .
ومخترع هذه الآلة هو الفيلسوف والعالم الفارابي :
أبو نصر محمد الفارابي اسمه الكامل : هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الكردي من الكردستان ... ولد عام 260 هـ/874 م في فاراب وهي مدينة في بلاد ما وراء النهر وهي جزء مما يعرف اليوم كردستان وتوفي عام 339 هـ/950 م فيلسوف مسلم أشتهر بإتقان العلوم الحكمية وكانت له قوة في صناعة الطب .
وفي وقتنا هذا كثر العازفون على هذه الآلة لكن من منهم أبدع بها هذا هو السؤال ؟
هو الأستاذ الراحل / محمد عبده صالح الذي خدمته الظروف ليكون من يعزف آلة القانون خلف السيدة الراحلة / أم كلثوم وقد كان له وقته وزمانه ولم نجد أحد من الإخوة المصريين الشرقيين من يبدع ويتحفنا بل ويفاجئنا بإبداعاته فتقريبا غالبيتهم يقولون ويعزفون نفس العزف أو متقاربين بالإبداعات ؟
إلا أنه ومن باب الأمانة أن خرج الأتراك بعزف على آلة القانون بشكل مغاير تماما لعزف الشرقيين مما وجه الأنظار باتجاه تركيا ليخرج منها مدارس بمعناها الحقيقي كالأستاذ / هايتش والأستاذ / عماد شكوري فأبدعوا إبداع ما بعده إبداع وتطور العزف بدل أن يصبح بريشتين أصبحت الريشتين والأنامل تتمايل على الآلة لتخرج منها عذب الألحان وتجبر المستمع دون شعور أو إرادة بأن يتفاعل معهم بشكل لا مثيل له .
كذلك هناك الفنان الفرنسي / جوليان جلال الدين فايس الذي كانت قصته جدا غريبة وعجيبة بل مؤثرة وبسبب الفن اعتنق الإسلام فكان عازفا جدا جميل وذو إحساس غير عادي ؟
يغادر جوليان باريس 1974 ويتجه من فرنسا إلى تونس ، وفيها يمسك ببداية الخيط الذي سيقوده إلى العالم الفني الذي يبحث عنه ، إذ بالمصادفة يستمع إلى عازف العود العراقي منير بشير، ومع كل نغمة كانت تصدر عن أوتار العود كان يشعر بأن الفراغ في داخله يمتلئ، فوقف وصاح باللغة الفرنسية :
ـ وجدتها... هذه الموسيقى التي أبحث عنها..
ومع صيحته أعلن قراره بهجر القيثارة الغربية ، وتفرغ فورا لتعلم العزف على آلة العود.
لقد تعلم خلال فترة وجيزة العزف على آلة العود ، ولكنه اكتشف بأن إمكانات هذه الآلة محدودة ، فقرر أن يتعلم أيضا العزف على آلة القانون ، لذلك لازم الفنان العراقي منير بشير في العراق، وبسرعة تفوق في العزف على آلة القانون إلى حد جعله من أشهر العازفين عليها في العراق ، وهو ما جعل منير بشير يؤلف قطعة موسيقية باسم جوليان فايس وعزفها تكريما له في أمسيات بابل الفنية في العراق .
لم يكتف جوليان بأن يصبح متفوقا في العزف على آلة القانون ، فقد شغف بها لذلك انكب على دراستها سنوات ، وتمكن من ابتكار قانون جديد يحتوي على 201 حبل موسيقي بدلا من 87 حبلا مما وسع من قدرات الآلة إلى خمسة أو كتافات وكان أول عزف على هذه الآلة في مدينة أزمير التركية على يد العازف التركي أكدر كوليل فأذهلت الآلة المستمعين لقدراتها اللحنية الواسعة ، وعلى الأثر نال جائزة فيلا ميدسي على هذه الآلة وعلى مجمل أبحاثه .
جوليان .. الحنين إلى الإيمان :
في رحلة بحثه زار جوليان مدينة حلب السورية ، وكان قراره أن تكون مدة الزيارة طويلة لأن هذه المدينة العريقة تضم إرثا فينا ضخما ، وبنفسية الباحث الدءوب عايش البسطاء في الأحياء القديمة يستمع إلى أغانيهم ، وصار يحضر الأعراس في الأحياء الشعبية مسجلا ألحان الأغنيات والمواويل .
وفي كل يوم كان يكتشف الجديد الثمين من الألحان الشرقية الأصيلة في هذه المدينة ، ولكن كان لا بد من أن تنتهي زيارته وحين أراد جوليان أن يودع أحياء مدينة حلب القديمة وقبل أن يغادرها، قام بجولة مسائية في بعض الأحياء حيث لم يبق إلا بضع ساعات لموعد إقلاع الطائرة التي حجز عليها من مطار حلب إلى باريس ، وفي جولته الوداعية تلك مر أمام مسجد صغير، فتوقف أمام باب المسجد مذهولا، حيث تنساب من داخل المسجد أصوات أناشيد دينية ومدائح نبوية ، فلم يتمالك نفسه ودخل إلى المسجد فوجد حلقة ذكر يقيمها بعض أبناء الحي الذين بادروا للترحيب به .
ـ أنا مسيحي : فهل أستطيع دخول مسجدكم ؟
يسأل جوليان بارتباك ، فيجيبه شاب بترحاب :
- أنت في بيت من بيوت الله يا سيدي ، والله أكرم ولا حدود لكرمه فكيف لا تدخل بيت أكرم الأكرمين وأنت مطمئن ؟
ـ وما هذا الذي تفعلونه ؟
- إنه ذكر ... وهو أننا نجتمع في هذا المكان الطاهر فننشد أشعارا نشكر الله فيها على نعمه علينا ، ونثني علي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ويستمع جوليان للرجال في حلقة الذكر، وللمرة الأولى يشعر أن الفراغ الروحي في داخله قد زال ، وكفنان يستمع إلى أجمل الألحان ، فيخرج من المسجد بعد نهاية حلقة الذكر، وأول ما فعله هو أنه مزق بطاقة السفر وأعلن :
( في هذه المدينة سأبقى وأعيش )
يقول جوليان:
ـ أمضيت أياما وأنا أتجول بين مساجد حلب القديمة مستمتعا بحلقات الذكر التي تقام فيها ليلا ، ودهشت من ذلك الكم الكبير من التراث الموسيقي واللحني الذي تؤدى به الأناشيد الدينية والمدائح النبوية حتى لكأن أوركسترا كبيرة تعزف مع أنه لا توجد أي آلة موسيقية في حلقات الذكر هذه ، ومن خلال مواظبتي على المساجد تفهمت حقيقة الدين الإسلامي ، وأنه هو العالم الذي كنت أبحث عنه منذ طفولتي ، ولذلك ومن دون تردد اتجهت إلى أقرب مسجد ونطقت بالشهادتين وأشهدت الحضور على إسلامي واسمي الجديد هو جوليان جلال الدين .
وهكذا ، وبعد إسلامه أقام جوليان في أحد أحياء حلب القديمة وهو حي باب قنسرين وتعلم اللغة العربية وحفظ القرآن وتعلم التجويد .
اليوم الأتراك هم أسياد العزف على آلة القانون ولم أجد مثيل لهم في إبداعاتهم الغير متناهية .
دمتم بود .....