2022-10-17

الفتاوي السياسية والتوثيق الإسلامي ؟

 

منطوق الفتاوي السياسية لم يكن له وجودا في تاريخ العرب قط إلا بعد أن منّ الله سبحانه وتعالى على أمة الإسلام بدين الإسلام عبر نبيه ورسوله محمد ابن عبد الله صوات ربي عليه وأفضل التسليم ... أي الفتوى لم يكن لها وجودا إلا بعد ظهور الإسلام بطبيعة الحال والفتوى السياسية لم يكن لها وجودا في عصر خلفاء المسلمين "أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" رضوان الله عليهم ... لأنهم هم أصلا منارات زمانهم في العلم والفتوى فضلا على أنهم صفوة الصفوة لرسولنا عليه الصلاة والسلام ... وبالتالي نستطيع أن تقول أن الفتوى السياسية بدأت في عهد بني أمية وهم أول من صنع الدولة السياسية الحقيقية وأيضا أول من تلاعب بالدين وأخضعه ووظفه لخدمة أغراض الحاكم ... والفتوى تعني أفتى أي أطلق رأيا والفتوى جاز للمسلم أن يأخذ بها وجاز له تركها سواء كانت من شيخ أو عالم أو مجموعة مشايخ أو مجموعة علماء تأخذ بها أو تتركها فالأمر مجهود شخصي صرف ... والتظليل هو من يجعل من الفتوى وكأنها أمرا سماويا أو من يُدلّس على الأمة بأنها فتوى مقدسة فالتوى رأيا كانت وسوف تبقى رأيا حتى قيام الساعة ... ومن المهم أن نعرف أن الفتوى انطلقت من مجالس "القصص والوعظ والدروس" التي بطبيعة الحال لا تخلو من السؤال والإجابة في الأمور الشخصية ومن ثم تطورت دون ضوابط برأي العامة ثم برأي ما يحدث في أحوال المدينة ثم ذهبت إلى الرأي بقرارات الحاكم أو الخليفة ... تلك المجالس وتلك الفتاوي بدأت من العهد الأموي ثم العصر العباسي ثم العهد العثماني ؟ 

من المؤسف حقا أن التاريخ الأموي والعباسي لا يعتبر تاريخا موثوق المصادر والوثائق إنما هو تاريخ منقول "مُعنّن - عن عن عن" أو كتب معدلة ومنقحة النسخ  ... وصحيح هناك مئات وآلاف الشخصيات الإسلامية التي سُطِّرت كتبهم لكنها تبقى كتب بلا وثائق بلا تحقق مادي قاطع الثبوت والأصل من حيث الشكل والمضمون لكن ليس التوثيق مؤكد المصدر ... وكل الأسماء التاريخية بمختلف توجهاتهم وتخصصاتهم لا يمكن أن نلغيهم أو نتجاوزهم لكن ما نقلنا لنا ما هو إلا الشيء القليل والقليل جدا ولا أحد يعرف اليوم مصادر المصادر التي توقفك في نهاية الطريق إلى الوثائق الأصلية للمؤلفات ... وهذا من ضعف التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ يفتقد إلى الوثائق الأصلية لأصحابها ومصادرها الرئيسية بنسبة لا تقل عن 70% ... بسبب كثرة الصراعات الداخلية الإسلامية وكثرة البدع وظهور الفرق والأحزاب والجماعات وكثرة الحروب الداخلية والصراع المتوحش في قصور الخلافة وبطانتهم في قلب الأمة الإسلامية ... ولذلك لا تتعجبوا أبدا إذا ما علمتم أن 99.9% من كل علماء المسلمين ممن تفتخرون بهم اليوم ... مثل "الرازي - ابن سينا - الجاحظ - الخوارزمي - ابن الهيثم - الكندي - الفراهيدي - بن حيان - ابن رشد" إلخ جميعهم دون استثناء كانوا أفرادا منبوذين مُحقّرين من أسرهم وجماعتهم وأمتهم في زمانهم وفي حياتهم ... وكذب ثم كذب من يقول أنهم كانوا علماء في زمانهم مقدّرين موقّرين وأن أمتهم وشعوبهم كانت تحترمهم وتفتخر بهم هذا ليس صحيحا بالمطلق بل الكثير منهم اتهم بالكفر والزندقة والشرك والبلاهة والجنون ... هي ذات السيرة في زمانكم لا تعرفون قدر وقيمة أصحاب العقول الإستثنائية وهذي طبيعة المجتمعات العربية بكل أسف لا يدركون الحقيقة إلا بعد فوات الأوان دائما وأبدا ... وكدليل أخر لتأكيد ما ذهبت إليه هو فقدان الكثير من الوثائق الأصلية لكبار وعباقرة الفن والأدب والشريعة والفلسلفة والطب والرياضيات إلخ من علماء العرب أن النسخ الأصلية لكتاباتهم غير موجودة وبنسبة 95% إلا من قد نجح بتهريب نسخ من مؤلفاته إلى خارج أراضي الخلافة آنذاك ... أو هناك من طلبة العلم من حافظ على ما تيسر له من مخطوطات معلمه ولا أكثر دليلا من الغزو المغولي لبغداد في سنة 1285 م ... والذي أحرقت مئات آلاف الكتب في بغداد والتي كانت عاصمة الثقافة والعلم ورميت ملايين الكتب في نهري دجلة الفرات ... ولذلك ظهر في الخلافة الأموية والعباسية من هم أكثر كذبا وجهلا ونفاقا للحاكم حبا للمال واتقاء لسيف الحاكم ومزيدا لإخضاع الرعية لهرطقات الخلفاء ... ناهيك أنه قد مرت على الخلافة العباسية والأموية سنوات وخزائنها تكاد تتفجر من كنز الأموال في قصور الأمراء والخلفاء وبيت المال لكن ثلثين الرعية كانوا حفاة الأقدام لا يملكون ثمن نعال ... وتلك مصدرها كثرة الضرائب وشهرة فساد قصور الحكم بالخمر والجواري أما في خارج قصور الخلافة فكانت الرعية مطالبة باتقاء الله والخوف من الله والرجوع إلى الله والصبر على الإبتلاء وطاعة الحاكم ... كلها كانت أدوات رجال الدين من الكذابين والأفاقين الذين سيسوا دين الله ووظفوه كليا لخدمة الحاكم ؟

في الخلافة العثمانية وهي الخلافة التي تعتبر الأكثر توثيقا بسجلات حقيقية بوثائق أصلية لا تزال موجودة ومحفوظة منذ مئات السنين في إسطنبول في متحف "الأرشيف العثماني" والذي يحتوي على أكثر من 95 مليون وثيقة عثمانية تاريخية  ... ولذلك يعتبر التاريخ العثماني هو الأكثر دقة ومصداقية على الإطلاق من التاريخ الأموي والعباسي بسبب التوثيق الحقيقي منذ سنة 1432م أي قبل 590 سنة من سنتنا هذه 2022 والذي يعتبر كنزا تاريخيا لا يقدر بثمن ... وهنا يجب الفرق ما بين التوثيق التاريخي بالوثائق الأصلية وما بين كتب التاريخ على يد الكتاب والمؤلفين الأتراك حصريا ... وعلى سبيل المثال عندما تشاهد المسلسلات التركية التاريخية يجب أن تفهم تلقائيا أن الحقائق فيها لا تتجاوز 40% أو 60% كأفضل وأعلى نسبة لأنه عمل درامي موجها للداخل التركي أكثر من الخارج ... أما كتّاب التاريخ التركي قبل 100 - 120 سنة فإن في عمومهم قد غلبتهم في كتاباتهم العواطف سواء حبا أو بغضا دون حياد إلا ما ندر ... والتاريخ العثماني لا يؤخذ من كُتّاب عرب أو مستشرقين لأنك لا تضمن سلامة نزاهتهم الكتابية فإن كانوا الأتراك أنفسهم لم يكتبوا تاريخهم بحقيقته وبنسبة 70% فكيف بالعرب والمستشرقين !!! ... وفي كتاب الأكثر شهرة وموثوقية في قلب تركيا وأوساطها الأكاديمية كتاب "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الإنحدار" للكاتب والمؤرخ التركي "خليل إينالجيك" الذي صدر في 1974 وتمت ترجمته للإنجليزية والفرنسية والإيطالية في لندن في 1975 وإلى العربية في 2002 ... والذي يذهب بنا للسؤال الذي يأتي تلقائيا : إذن بمن تثق إن كان "خليل إينالجيك" لا يعتبر كاتبا موثوقا به ؟ ... الجواب بكل بساطة هو : تاريخ 590 سنة يستحيل أن تسطره بكتاب واحد بعدد صفات 370 صفحة ... مع أني استمتعت بقرائته لكن للحقيقة والحياد رأيا أخر مختلف منفصل كليا عما تشاهده أو تقرؤه ناهيك بعدم وجود القدرة البشرية لقراءة وتحليل أكثر من 95 مليون وثيقة عثمانية تاريخية من "الهواة - المثقفين - الباحثين" بعني لو قرأت وحللت في اليوم الواحد 1.000 وثيقة فستحتاج 95 ألف يوم أي ستحتاج لأكثر من 260 سنة وهذا المعنى الحقيقي لـ 95 مليون وثيقة لـ 590 سنة  ... ومن المهم أن تصنع مقارنة وهي أن الوثائق والتاريخية للخلافة الراشدة والأموية والعباسية لا تساوي 10% كوثائق ومخطوطات أصلية مقارنة مع عدد الوثائق العثمانية الـ 95 مليون فقط لنعلم حجم مصيبتنا التاريخية العربية ... أضف إلى ذلك أن السلطات التركية سواء في الماضي أو الحاضر أي من زمن "مصطفى كمال أتاتورك" وحتى يومنا هذا "رجب طيب أردوغان" لا تسمح ولن تسمح لك السلطات بأن تظهر قبح وسيئات وسلبيات الخلافة العثمانية على الإطلاق لكنها تسمح لك بحسنات الخلافة العثمانية وإيجابياتها وشيئا بسيطا من الإنتقاد ... لكن الأرشيف العثماني يبقى دليلا واقعيا على حقيقة تلك الحقبة وأظن أن هناك وثائق حجبت عن العامة لخطورتها ومدى سلبيتها على سمعة الخلافة العثمانية ... لكني لا أمنع إعجابي بشيخ القضاة "أبو السعود أفندي" في عهد "سليمان القانوني" والذي فيما بعد أصبح مفتيا للدولة العثمانية والذي قرأت عنه ما تيسر لي من شخصيته وتاريخه ودهاءه وبلاغته وحكمته وحزمه وشدته وكان يتقن اللهجة العثمانية واللغة العربية والفارسية ... لا بل وأيضا وافق "سليمان القانوني" في أمور وعارضه في أمورا أخرى والذي لم يكن هناك أحدا ليجرؤ أن يعارض "سليمان القانوني" بالإضافة إلى أنه طور القضاء ونظم الفتوى وقوانين الدولة ... ومن المؤسف حقا أن التاريخ العباسي والأموي لم يصلنا منه إلا القليل مقارنة مع تاريخهما والذي يمتدان لأكثر من 850 سنة بدليل لا يوجد أرشيف للوثائق العباسية والأموية إلا ما ندر أو القليل مقارنة مع 850 سنة بعكس توثيق التاريخ والأرشيف العثماني ... لتتكون لدي شخصيا قناعة أن الإفتاء الديني السياسي يمكن تدليسه وشراءه بالمال السياسي خضوعا لرغبات الحاكم أو رهبة ورعبا من بطش الحكام ... ولذلك لا يمكن اليوم الوثوق بأي فتوى من فتاوي مشايخ نجوم القنوات الإعلامية ونجوم مواقع التواصل الإجتماعية لأن المفتي ربما كان كاذبا أو فاسدا أو مرتشيا أو جبانا والغالب على من يفتون اليوم هو الجهل والحماقة والوقاحة والضرب في صميم كتاب الله "القرآن الكريم" ... والله المستعان ؟





دمتم بود ...


وسعوا صدوركم