2021-07-06

من عجائب التاريخ الياباني ؟

 

في حدث غريب ولا مثيل له في التاريخ البشري تعتبر "العائلة الإمبراطورية اليابانية" أقدم ملكية وراثية مستمرة إلى اليوم في العالم بتاريخ سلالة بدأ في سنة 660 قبل الميلاد وحتى يومنا هذا في 2021 أي سلالة مستمرة منذ أكثر من 2.680 سنة ... أسرة وسلالة بدأت بالإمبراطورية مباشرة منذ حكم "كأموياماتو إواريبيكو" وشهرته "الإمبراطور جيمو" في 660 ق.م وصولا إلى اليوم "الإمبراطور ناروهيتو" ... وما يميز المجتمع الياباني اليوم هو أنه يوجد بداخله عائلات عريقة تاريخيا أي هناك عائلات ذات نسب وأصل تاريخي شديد العراقة ... إن التاريخ الياباني مذهل حقا يدهشك كم وحج التناقضات التي تتنوع وتتأرجح ما بين الشرف وما بين الوحشية ... وتتميز الشخصية اليابانية بالشرف والوقار والنزاهة وحسن السمعة منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا ... وفي وجه أخر تتميز الشخصية اليابانية أيضا بالقسوة والوحشية المرعبة في تاريخها القديم والحديث ... وأيضا تتميز الشخصية اليابانية بالذكاء الحاد والفنون ودقة وإبداع الأعمال وإتقانها بدرجة لا متناهية ... والشخصية اليابانية تعتز بشدة حتى يومنا هذا بتصميم منازلها على الطراز القديم وتحمل الكثير من قيم الأجداد ... والشعب الياباني عبر تاريخه عُرِف أنه شعب ذوو بأس شديد لا أحد يستطيع هزيمته بالسهولة التي عرفها تاريخ الحروب في تلك المنطقة وطبيعتها ... فهي أمة وحتى يومنا هذا تعتز بشدة وبوقار لا حدود له بتاريخها القديم واحذر جدا من أن تمس تاريخهم بالقول أمامهم بأي سوء ... اليابانيين مختلفين كثير عن باقي شعوب دول شرق أسيا من حيث الشكل واللبس والتاريخ فمن حيث الشكل فهم أكثر أمة تحمل أصغر عيون في العالم أما لباسها فلا يزال الكثيرين يعتزون بلباسهم التقليدي والذي يعرف بـ "الكيمونو" الخاص بالنساء ولباس "كوميه" للرجال ولا عيب أن تجد في شوارعهم اليوم من يلبسه ؟

من أشهر ما يميز اليابانيين عن باقي شعوب دول شرق أسيا أنهم الشعب الوحيد الذي كان يسير في الشوارع ويحمل الرجال منهم السيف ... ومن يحمل سيف في شوارع اليابان قديما فهذا دليل أن حامله إما تابعا لمدرسة قتال يابانية أو تابعا للدولة أو فارسا ومبارزا ... والسيوف في اليابان لها حكاية عريقة تستحق الذكر فالسيف بشكل عام كان وسيلة دفاع وحرب وقتل منذ آلاف السنين في كل أمة وجيش منذ آلاف السنين ... لكن اليابانيين حولوا السيف من وسيلة إلى عقيدة مدهشة في حقيقتها وأول من صنع السيف الياباني بشكله التاريخي هو "أماكوني" من مدينة "ياماتو" التي حاليا هي جزء من محافظة "كاناغاوا" القريبة من العاصمة "طوكيو" والذي كان حدادا فأصبح أسطورة اليابان حتى يومنا هذا ... ثم من بعده خرجت أسر يابانية نالت شهرتها التاريخية وسمعتها البراقة بسبب جودة وقوة ودقة صناعتها للسيوف بتاريخ يبدأ من سنة 700 إلى سنة 2000 ميلادية ... مثل الأسر اليابانية "أكيتسوقو أماتا - هيكوشيرو ساداموني - كانينوبو" وغيرهم من القلة وليس الكثيرين الذين كانوا يصنعون السيف الياباني من الفولاذ والفولاذ الكربوني ... واليوم سعر السيف الياباني يبدأ سعره بـ 10 دولار بصناعة تجارية للزينة وسعر 2.000 دولار = 600 دينار كويتي للسيف المصنوع جيدا والسيف الياباني المصنوع باحتراف يصل سعره لأكثر من 50 ألف دولار = 15 ألف دينار كويتي وهذا يعتبر سيف من "الفولاذ الكربوني شديد الصلابة" مخصص للقطع وخطير جدا ... وتتميز احترافية الصانع بأن يكون السيف خفيف الوزن وشديد الصلابة والقوة في نفس الوقت وهنا تكمن بدعة وحرفية الصانع ... وبكل تأكيد فإن السيوف اليابانية القديمة والتي كانت يطلق عليها بـ "سيوف الساموراي" والتي لا تقدر بثمن لعراقة صناعها وتاريخها ولعدم وجود من يصنعها اليوم بدقة وصنعة المحترف لأن اليوم كلها صناعة من خلال المكائن الحديثة ... وتم منع حمل السيوف في الشوارع في عهد "الإمبراطور ميجي" في سنة 1890 فتحولت صناعة السيوف إلى صناعة السكاكين ... ومما لفت نظري من ناحية عراقة السلالة الحاكمة اليابانية فإن "الإمبراطور ميجي" يعتبر ذو الترتيب 122 وفقاً لبيت الحكم من سلالة الأسرة الحاكمة اليابانية في ترتيب محكم الدقة ومدهش التوثيق ؟

يخبرنا التاريخ الياباني بشرح أسباب لفهم كيف أمة اليابان هي أمة ذات بأس شديد ؟ ... يكفي أن تعلموا أن اليابان قد غزت واحتلت كل من "الصين وكوريا وتايوان والفلبين وفيتنام وكمبوديا وتايلاند وماليزيا وأندونيسيا" وغيرها أي أنها احتلت كل دول شرق أسيا ... والتاريخ أيضا يحدثنا من أن أمة وشعوب دول شرق أسيا كانت ترتعب من اليابان نظرا لقوتها وبسالتها أولا ونظرا لشجاعتها وجرأتها وفي نفس الوقت بشاعتها في ارتكاب الجرائم ثانيا ... وقد ارتكبت اليابان جرائم قتل وتعذيب وإبادة جماعية في الكثير من أماكن غزواتها ولذلك هي صدّرت سمعتها خارجيا قبل أن تحتل أو تغزو أي بلد فكانت نادرا ما تواجه مقاومة ومع ذلك كانت تفرط في القتل ... ومن أسباب تلك القوة الإستثنائية هي أن الجندي والضابط والقائد الياباني كانوا فعليا يرون أن أي انتصار يحققونه هو بمثابة أمر طبيعي وبديهي لعظمة إمبراطورهم الحاكم وأن أي هزيمة تعني أنهم خذلوا حاكمهم وامبراطورهم ... ليس السبب نقص الأكل أو الماء أو العتاد أو نقص التسليح كل هذا ليس له معنى في عقيدتهم إنما نحن من خذلنا إمبراطورنا الحاكم ... ولذلك سجل التاريخ أنه بعد استسلام "الإمبراطور هيروهيتو" لأمريكا في 1945 قام أكثر من 60 ألف جندي وضابط ياباني بقتل أنفسهم انتحارا حتى لا يلحقهم الخزي والعار بخذلان امبراطورهم ... ليس هذا فحسب فبعد أن ضربت أمريكا اليابان بقنبلتين ذريتين وليس نوويتين في "هيرشيما - ناكازاكي" أرسلت الحكومة الأمريكية برقية للحكومة اليابانية رسالة مفادها "ما حدث هي البداية لكم فإما الإستسلام بلا شروط أو سنستمر بتمدير مدنكم والتي ستكون العاصمة طوكيو هي التالية" ... فخاف امبراطور اليابان على شعبه وفي 15-8-1945 أعلن "لإمبراطور شووا" خطابه الإذاعي للأمة اليابانية الإستسلام ... وعلى إثر ذلك جرت عمليات انتحار على الطريقة اليابانية والتي تعرف بـ "هاراكيري" وتعرف أيضا بـ "سيبوكو" وتلك عقيدة تعني التفادي الوقوع في أيدي العدو أو لمسح عار الهزيمة وهي عقيدة أصلها من "الساموراي" الذي يُكفّر عنه خطئه اقترفها ودليلا عن الشرف والإخلاص والطاعة والساموراي تعني "المحارب أو المقاتل" ... وسجلت الصور التي التقطت من قبل الإعلام الحربي الأمريكي مئات السيوف التي تم تسليمها للجيش الأمريكي بعد عملية الإستسلام ... والسيف وفق عقيدة الجيش الياباني لا يحمله إلا من يحمل رتبة ضابط وهؤلاء سلموا سيوفهم للمنتصر الأمريكي ثم انتحر الآلاف منهم ؟

فكرة أن الشعب يموت ولا يخذل الإمبراطور تلك العقيدة التي دارت لقرون عديدة في الأمة اليابانية هي كانت السبب الأول بأن تنهض اليابان بعد فاجعة "هيروشيما وناكازاكي" ... لأن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان تحولت من عداء إلى صداقة في 1945 ثم تولدت الثقة بسبب تنامي قوة جديدة في منطقتهم قوة نووية وتملك قدرات عسكرية ضخمة للغاية وهي "كوريا الشمالية" ... فرمت اليابان أمنها الخارجي على أمريكا في بداية الأمر حتى استعادت عافيتها وقوتها وتقدمها التكنولوجي فاكتسحت العالم بصناعاتها ... ليس هذا فحسب بل أصبح في اليابان أكثر من 30 قاعدة عسكرية واحتلت المركز الرابع في 2020 كأقوى جيوش العالم ... وبفضل حداثة صناعتها وتطويرها وخبرتهم الحربية فإنه من السهل أن اليابان ذات الـ 128 مليون نسمة أن تغزو اليوم وتحتل الهند ذات الـ 1.4 مليار نسمة ... اما من ناحية العداء والثأر التاريخي فبالتأكيد في تلك المنطقة من دول شرق أسيا هناك أحقاد وعداء مثل بين "اليابان والصين" و "اليابان وكوريا الشمالية" ... واليابان تعرف أنه مهما طال الزمن والوقت فإن الحرب في منطقتهم قادمة لا محالة لكنها تمارس السياسة الهادئة لكن ما يساعدها هو وجودها كعضو في "مجموعة الدول الصناعية السبع" التي تدير العالم اقتصاديا ؟

يابان اليوم ليس كالأمس من حيث الشكل العام فبالتأكيد قد طرأت عليها تغيرات كبيرة جدا لكنهم تمسكوا بعقيدتهم بتراثهم بتاريخهم بتطورهم ... تلك الحداثة رأيتها من خلال شكل وتصميم منازلهم التي لا تزال صغيرة الحجم متواضعة الديكورات ... لكنهم ورثوا النظافة من سلالة أجدادهم القديمة فهم من حيث النظافة والترتيب لا يوجد شعب يقارعهم في هذه النقطة لا في منازلهم ولا في شوارعهم ولا في نظامهم داخل المنزل وكأنها طقوس مثل حذاء للخروج ونعال لداخل المنزل ونعال للبلكونه أو الشرفة ... وحتى في سجونهم تتجلى العقيدة اليابانية بأن السجين ليس مسجون حتى يأكل ويشرب وينام دون أي فائدة فلزاما وجبرا على كل سجين أن يستفيق في الساعة السادسة صباحا ويمارس الرياضة وعندما يخرج المساجين لا يخرجون بشكل فوضوي بل الكل يتحرك في طابور منظم ... ولا مجال لغرفة المساجين أن تكون وسخة أو غير مرتبة أو غير نظيفة فالعقوبة تنزل عليهم سريعة وبلا رحمة وفي كل يوم يتم الكشف على نظافة وترتيب الغرفة ... فهم وفق علمهم وثقافتهم ينظرون أنك سجين وإذا جلست دون أي تغيير في سلوكك وحياتك داخل السجن فستكون عبئا عليهم عندما تضربك الأمراض المتعددة فتستنزف موارد الدولة من رعاية صحية وعمليات وأدوية وتلك أموال دافعي الضرائب أي أموال الشعب إلخ ؟

الثقافة اليابانية اليوم مختلف كليا عن سالف أجدادهم فاليوم تدها فعلا بلد الغرائب والعجائب ... فلا تستغرب إذا ما عرفت أن فلان مات والده فأخذ إذنا من العمل وذهب ليحرقه ويتمم إجراءات الوفاة ثم يكمل باقي يومه في عمله بشكل طبيعي يتحدث ويبتسم وكأن لا شيء قد حدث ... هو نفس السلوك عندما يكون لديك زميل في العمل فتجده ودود باسما دائما متعاونا وبعد أن تخرج أنت معه من باب العمل فدير لك ظهره وكأنه لا يعرفك ... لا وقت لديهم للمجاملات ولا لمضيعة الوقت فهم وفق ثقافتهم كل ثانية ولها ثمن فإما أن تستمتع بها نفسيا أو تعمل أو تقرأ أما نومك فيجب أن يكون محدود الوقت لا يتجاوز 5 أو 6 ساعات وإلا أنت مريض جسديا ... ومن واجب كل من يسكن في بيت جديد أو شقة وجب عليه أن يمر على سكان من حوله ويطرق الباب على واحد واحد فيهم ليعرفهم على نفسه بكل أدب واحترام فإنه من العار أن تسكن في شقة أو بيت جديد ولا أحد يعرفك وكأنك نكره ... الكذب لديهم جريمة أخلاقية لا غفران لها لأن اليابان من ضمن عقيدتهم عدم الكذب ... وبعد "هيروشيما وناكازاكي" خافوا على الأجيال القادمة من أن تفتك الأيام بهم ابتكروا مادة دراسية في مناهجهم التعلمية في المدارس تسمى "مادة الأخلاق" وتحديدا ما بعد 1948 وأصبحت مادة أساسية ... بل ومن المثير للإعجاب حقا المادة 15 من الدستور الياباني الذي تأسس في سنة 1946 والتي تنص حرفيا : كل المسؤلين الحكوميين خــــــدم للمجتمع ككل وليس لمجموعات منه ؟

المنظمات الإجرامية في اليابان كانت من ضمن طبيعتهم التي أفرزت وحشيتهم في الحروب والغزوات وتلك العقيدة استمدت من ثقافة "الياكوزا" نشأت قبل أكثر من 350 سنة ... وهي عبارة عن عدة عوائل وقبائل يابانية الأصل أدركت تغيرات النظام العالمي أكثر من 3 مرات في عهدهم وتعطوا وتعاملوا مع العالم السفلي ... فهم يحصلون على الأموال من المراقص والخمارات وبيوت الدعارة ويدورونها لحسابهم بالإضافة إلى بيع المخدرات وطباعة العملات المزيفة وغسيل الأموال وغيرها ... وبعد الحرب العالمية الثانية وكارثتهم من القنابل الذرية وهزيمة اليابان في الحرب أخذ الياكوزا على عاتقهم حماية المجتمع من أي انفلات ... وقدرت التقديرات بأن أعداد الياكوزا تجاوزت أكثر من 250 الف نسمة يعتبرون من أسوأ وأخطر أفراد المجتمع الياباني بسبب فظاعة جرائمهم تقودهم 25 عائلة ... وأشهر عائلات الياكوزا هم "ياماغوتشي غومي - إيناغاوا كاي - سوميوشي كاي" وغيرهم ... بل تم تصنيفهم بأنهم أغنى مافيات العالم من حيث تمددهم الأخطبوطي في كل دول شرق أسيا وأوروبا ... بدليل أن تم تقدير ثروة إحدى عوائل الياكوزا من عائلة "ياماغوتشي" بأكثر من 2.4 ترليون دولار = 722 مليار دينار كويتي وتلك التقديرات سجلت وفقا لصحيفة "China Times" في عددها الصادر 14-6-2014 ... لكن في سنة 2000 شنت الحكومة اليابانية حربا ضروسا ضد الياكوزا تنوعت ما بين عقد صفقات سياسية وما بين قوة القانون وتشدده مع الياكوزا ... طريق طويل اتخذته الحكومة اليابانية حتى تقضي على الياكوزا التي جلبت العار للشعب الياباني بسبب قذارة أفعالهم التي تناقض أخلاق الشعب الياباني وتاريخه ... وبالفعل أتت الحرب الحكومية أكلها فقد شنت الحكومة اليابانية حملات اعتقال طالت كبار القيادات في عائلات الياكوزا دون أي خوف أو استثناء أو تراجع وقبضت وسجنت المئات منهم وطبقت برنامجا مجتمعيا وقانونيا وقضائيا قاسيا جدا ضد كل ما يمت للياكوزا بأي صلة ... على سبيل المثال كل فرد من الياكوزا يخرج من التنظيم عليه أن يبقى بعيدا عن العصابة لمدة 5 سنوات ولا يحق له العمل ولا الرعاية الصحية ولا أي خدمة من خدمات المجتمع حتى تنتهي الـ 5 سنوات ليتأكدوا من صدقه وجديته ... ليس هذا فحسب بل كل موظف في شركة أو في الحكومة تتم مشاهدته مع أي فرد من الياكوزا فإن الموظف خلال أقل من 3 أيام يتم فصله من العمل ويطرد سريعا ... لدرجة أن في اليابان هناك حمامات للرجال يستحمون عرايا وهذا أمر دارج وطبيعي لديهم لكن أي شخص يدخل وعلى جسمه وشوم الياكوزا فإنه يتم طرده فورا من الحمام ... وهكذا جعلت الحكومة اليابانية والشعب الياباني فرد الياكوزا منبوذا مجتمعيا بنسبة 100% بفضل متابعة دقيقة وحثيثة لا تمل ولا تكل من قبل "إدارة مكافحة الجريمة المنظمة" في جهاز الشرطة والمخابرات الياباني ... وإلى هذا الحد ينتهي موضوعنا علني استطعت أن أفتح أمامكم بعض أبواب التاريخ والمجتمع الياباني ؟




دمتم بود ...


وسعوا صدوركم