2019-05-03

الدية الشرعية .. تجارة الدم ؟


قتل الإنسان لأخيه الإنسان ظلما أو طغيانا هي من الكبائر العظيمة التي سطرتها الكتب السماوية الثلاثة "اليهودية - المسيحية - الإسلامية" والتي تجلت بقوة مفرداتها الكتب السماوية بتعمد لعظمة هذا الظلم وهذه الجريمة ... ومن باب رحمة رب العالمين في عباده أن شرّع الدية لأهل أو ذوي الضحية المقتول وهي من باب غلق أبواب شر الفتن والثأر وتعظيم قيمة الإنسان ... والدية الشرعية منتشرة بين قبائل السودان ودول الخليج وعشائر العراق وسورية ولبنان والأردن والجزائر والمغرب ومصر ... لكن تعامل وتعاطي موضوع الدية يختلف من مجتمع إلى مجتمع ففي السودان تجدهم مرتبطين بالوضع الإقتصادي السيء فيكون الحل يناسب قدرات الجميع دون إحداث أي ضجة ... أما في لبنان فالأمر يختلف كثيرا فتجد الأمر يدار ما بين قوة نفوذ أهل المقتول أو القاتل وما بين مدى أهمية المقتول من عدمه وبالتالي صيغة الأمر تكون هي الحكم في الغالب ... أما في الأردن فهي دولة عشائر وقبائل صرفة لهم من القوة والنفوذ ما يفوق حتى سلطة الحكومة وغالبا ما تكون قوة الدية قاسية وتتنوع ما بين تأكيد الثأر أو استملاك أراضي القاتل وأهله وبسط المزيد من النفوذ وفي الغالب تحل الأمور بتدخل رئيس الدولة شخصيا ... أما في الجزائر والمغرب فهناك الأمور مختلفة فتدار الأمور خارج إطار القانون تماما شرط أن يكون المقتول من أهل السطوة والذي في الغالب تفشل كل الوساطات ولا يقبل سوى دم القاتل وفوقه تهجير أهل القاتل من المنطقة كلها ... وفي مصر فجميعنا نعرف قصص الثأر التي حكتها وروتها عشرات الأفلام المصرية بل من يسير وهو حامل كفنه وفق تقاليد صعيد مصر فإن قبلت ديته فإنه وفق أعراف الصعيد يعيش باقي حياته وكأنه ميت وهنا وفق مفهومهم فقد سقطت رجولته للأبد ويعيش وكأنه ميت لا قيمة له بين القرية والأهالي ... أما في دول الخليج وتحديدا في السعودية فإنك سترى الجنون بعينه بمغالاة مبالغ الدية والتي وصلت فعليا إلى 55 مليون ريال في 2018 = 4.5 مليون دينار كويتي = 14.8 مليون دولار ناهيك عن الأراضي والإبل ومغريات ما أنزل الله بها من سلطان ... أما في الكويت فقد وصلت دية رجل في 2019 إلى 10 ملايين دينار = 32.9 مليون دولار ؟ 

الحقيقة أن الكثير من الحكومات قد فرضت نفسها فرضا قويا وشديدا لمنع تمدد حالة الدية الشرعية وحجمت أصحابها ليقينها أن السكوت على هذا الأمر ينتج تلقائيا هيمنة قبلية أو عشائرية أو عائلية قد تؤدي مستقبلا على فرض نفسها في أوساط المجتمع ... التي تلقائيا ستؤدي إلى اختلال التوازن بين فئات المجتمع والتي ستؤدي إلى تعظيم شأن قبيلة على قبيلة أو عشيرة على عشيرة ... مع عدم استبعاد إلى احتمالية تعظيم شأن نسائهم على باقي نساء المجتمع وصناعة عظمة وقيمة هي أصلا لا وجود لها لأن الطبيعي أن يكون الناس سواسية ... وهذا النجاح الذي حققته حكومات الجزائر وتونس والمغرب والسودان أنها لم تجعل لأحد أن يكون له قوة نفوذ مجتمعي ولا أي استعراض للقوة المجتمعية التي قد تؤلب الآخرين ... فسدت تلك الحكومات أبواب شرور الفتن وبسطت قوة نفوذها وسيطرتها على الجميع ... نقيض ما سبق أصبح ظاهرا في السعودية قبل ما يناهز الـ 10 سنوات الماضية في مشاهد تعبر عن مدى ضعف الدولة ومدى قوة تأثير القبلية على المجتمع ... ففشلت الحكومة السعودية في منع التنافس بين قبائلها ومنع قوة تأثيرها المجتمعي فخلفت تلك التجارة التي تعيش على الدماء الضغينة بين الكثيرين وفق العقلية العربية التي تستمد جاهليتها من عاداتها وتقاليدها المتخلفة ... نفس هذا الأمر حدث في الكويت في 2019 عندما سمحت الدولة في ضعفها المعتاد على ظهور حالة فريدة وشاذة في التاريخ الكويتي لجمع أكبر مبلغ دية وسط ذهول شعبي عارم ... وبغض النظر عن أسباب القتل في كل ما سبق وفي كل الدول وكل المجتمعات لكن ما حدث وما يحدث وما سيحدث من تنوع شكل الديات وأنواعها كانت دائما وأبدا تتم وسط استنكار المجتمعات لممارسات الكثيرين ومغالاتهم في مبالغ الدية الشرعية التي تحولت من عتق رقبة لوجه الله سبحانه إلى تجارة خسيسة استغل ظرفها أهل القتيل ... مع حسن الظن والتقدير وعدم الإغفال بالتأكيد لمن تنازلوا عن القصاص لوجه الله تعالى ولكل من سعى للصلح وإطفاء نيران الفتن في مثل هذه القضايا شديدة الحساسية ؟

والكل يتسائل : لماذا كل هذا الإستعراض ؟ ولماذا لم تتم هذه الأمور بسرية تامة ؟ ولماذا يستغل أهل القتيل دم قتيلهم ؟ ومبالغ أو قيمة الدية يا ترى كم سجين كانت ستخرجه من سجنه بسبب الدين ؟ وكم أسرة كانت يمكن أن تسعد ؟ وكم مريض كانت قيمة الدية أن تساعد وتشفي ؟ وكم طالب يمكن أن يتعلم ؟ وكم بئر ارتوازي في الدول الفقيرة كانت ستحدث ؟ وكم مسجدا ومدرسة كانت ستبني ؟ وكم من فقير كانت ستزوجه وتستره ؟ وكم من أسرة لا تجد طعامها كانت ستطعم ؟ ... إذن الفكر الإقتصادي يقول لكم أنه تم تقديم فردا واحدا وتفضيله على حساب آلاف الأفراد وآلاف المعاناة والآلام وكان هذا خطأ عظيما وكبيرا ... والأهم أن ما حدث ويحدث وما سيحدث فتح أبوابا كثيرة أن القتل هو أمر هين وسهل طالما هناك ثمن لكل الدماء التي قتلت أو التي ستقتل لأن الدولة شاركت في جريمة الدية الشرعية ... والتي أصحابها يتناسون عمدا قوة الكثير من الآيات القرآنية التي تحرم القتل وتعظم من تلك الجريمة ليستندوا على بضع آيات مشروطة ... فهل الدية الشرعية ستنقذ القاتل من حساب وعقاب يوم القيامة ؟ وهل الدية الشرعية أدت الغرض التي وضع من أجلها ؟ وهل الدية الشرعية أدت لاستقرار المجتمعات ؟ ... بالتأكيد كلا فالقتيل يوم القيامة سيقتص من قاتله والدية الشرعية لم تؤدي الغرض لأن جنونها أدت إلى إفسادها ناهيك أن المجتمعات أصبحت مستنكرة للكثير من ممارسات الدية الشرعية فباتت اليوم تجارة دم بامتياز ... قتل عمد قتل شرف قتل غيرة أو على مال أو لأي سبب كان تعددت الأسباب والموت واحد ومن قتل نفسا عليه أن يكمل في رجولته وبطولته ويواجه القصاص ولا يتحمل وزر فعلته لا أهله ولا ذويه ولا أقربائه ولا يخزيهم في طلب المال من الأغراب ... ألم قاتلكم يجب أن لا يكون فيه أي فرق بينه وبين ألم ذوي المقتول وتلك عدالة الدنيا بعدالة الآلام أما القاتل والمقتول فحسابهم يوم القيامة له شأن أكبر من أن تستوعبونه ... فقصاص الدنيا أهون من قصاص الآخرة وحساب الآخرة أعظم من قاضي الدنيا يوم تأتون ربكم حفاة عراة لا أهل ولا جمع معكم كل فرد سيحاسب عن نفسه وعن أفعاله وما اقترفته يده ؟





دمتم بود ...



وسعوا صدوركم